ماهية إبادة الجنس
صفحة 1 من اصل 1
ماهية إبادة الجنس
ماهية إبادة الجنس
بقلم الدكتور محمد رفعت الإمام
أريك – العدد19- ديسمبر 2011
...................
تثار في تلك الآونة مناقشات ومجادلات في الدوائر الإعلامية بخصوص تجريم القانون الفرنسي لإنكار الإبادة الأرمنية . وفي عين اللحظة ، تصف أدبيات كثيرة ان شعوبا عربية دخلت دوائر الإبادة علي أيدي أنظمتها الاستبدادية الحاكمة. وثمة خلط بائن في استخدام مصطلح" الإبادة" حتي أن كثيرا من الكتاب يستخدمونه دون معرفة ماهيته.
وفي هذا الشهر، تحديدا في 9 ديسمبر ، تمر ثلاثة وستون سنة علي إقرار " اتفاقية الأمم المتحدة لمنع إبادة الجس والمعاقبة عليها " في عام 1948 ، وهي الاتفاقية التي صاغت مفهوما دوليا ملزما لجريمة " إبادة الجنس" . ولذا سوف أكرس هذا المقال لتحديد ملامح مفهوم " إبادة الجنس" كما وصفته الأمم المتحدة وأبرز نقاط الضعف فيه .
بعد معركة ضارية ، وبعد سلسلة من " التسويات الدبلوماسية" استقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة علي ان يكون مفهوم الاتفاقية لجريمة " إبادة الجنس " حسبما ورد في مادتها الثانية : " أي من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه: ا- قتل أعضاء من الجماعة ب- إلحاق أذي جسدي أو نفسي خطير بأعضاء من الجماعة ، ج – إخضاع الجماعة ، عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا ، د- فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة ، ه- نقل أطفال عنوة من الجماعة إلي جماعة أخري.
وعلي المستوي العقابي ، تنص المادة الثالثة من الاتفاقية علي معاقبة الأفعال الآتية : اقتراف الإبادة في حد ذاتها علي نحو ما حددته المادة الثانية ، التآمر علي اقترافها ، الشروع في اقترافها ، الاشتراك في اقترافها . ومن جهة المسئولية الجنائية ، تؤكد المادة الرابعة علي معاقبة مرتكبي" إبادة الجنس " أو الأفعال الواردة في المادة الثالثة سواء كانوا حكاما أو موظفين عموميين أو مواطنين عاديين . وبذا، استبعدت الاتفاقية أي دور للدول أو الحكومات في ارتكاب جريمة"إبادة الجنس".
وبذلك، أعدت الاتفاقية مفهوما معترفا به دوليا لجريمة الإبادة قوامه أربعة أركان محورية هي : فعل جنائي، تعمد، تدمير كليا أو جزئيا ، جماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية ، مستهدفة . ووفقا لهذا المفهوم ، تتكامل الجريمة في " إبادة الجنس" ماديا ومعنويا ، إذ يتوافر الركن المادي في تدمير أعضاء الجماعة المستهدفة كليا أو جزئيا بإيتاء أحد- أو أكثر- الأفعال الخمسة المحصورة في المادة الثانية. ولا يشترط لوقوع هذه الجريمة ان يقود الفعل إلي غايته كليا أو جزئيا، فيكفي توافر النية الإجرامية المتعمدة عند الجناة للوصول إلي هذه الغاية، وهو ما يمثل الركن المعنوي في جريمة الإبادة.
وجدير بالرصد أم معركة المفهوم الأمثل لجريمة"إبادة الجنس لم تنته عند حد تسويات الجمعية العامة ولجانها لاتفاقية الإبادة في 9 ديسمبر 1948 ، بل تعرض مفهوم الأمم المتحدة – ولازال- لسلسلة من الانتقادات بسبب غموضه والتباساته وتداخلاته وثغراته ونقائصه رغم سمته القانونية الدولية الرسمية وفيما يلي نعرض لأبرزها وأهمها :
الجماعة المحمية
فيما يتعلق بالجماعة المحمية ، ثمة انتقادات عدة قد وجهت إلي ط الجماعات" التي اختصتها الإبادة بالحماية. ففي الابتداء، لم تحدد المادة الثانية – بل والاتفاقية برمتها – ماهية مصطلح " الجماعة" الوارد بها . وأكثر من هذا ، حددت المادة الثانية أربع فئات حصريا ينبغ حمايتها وهي: الجماعة القومية والعرقية والعنصرية والدينية دون تحديد معني هذه المصطلحات من منطلق أن جريمة"إبادة الجنس" تقترف ضد جماعة تمتلك سمات مشتركة ثابتة مستقرة يمكن التعرف عليها بسهولة . ومن ثم، تركت الاتفاقية تحديد ماهية المصطلحات آنفة الذكر إلي استنتاجات المشتغلين في العلو الإنسانية والاجتماعية وإلي اجتهادات المعنيين بالأمور القانونية تحكمهم- أو بالأحرى- تتحكم فيهم أهواء سياسية ومصالح اقتصادية وميول اجتماعية. ولا يخفي ان الفعل الإجرامي لن يصنف " إبادة جنس " إلا إذا استهدف تحديدا واحدة من الجماعات الأربع آنفة الحصر.
وهنا ، تكمن خطورة " التقديرية" في تحديد ماهية " الجماعات المستهدفة " علي المستويين العلمي والقضائي .
ويصف كثير من المشتغلين بالدراسات الإبادية والقانونية المحمية- عدا الدينية – بموجب اتفاقية الإبادة ب" الغموض" نظرا للتداخل والتشابك بين ما هو " قومي" و " عرقي " و" عنصري" ونادوا بإمكانية تعريف " الجماعات المحمية" علي نحو مختلف بناء علي " النوع" أو علي " مكان محدد " ورغم قناعتهم بان جل مقاصد مهندسي الاتفاقية تتمثل في حماية الجماعات المستقرة المشكلة نهائيا وتتحدد عضويتها من خلال التناسل مع استبعاد الأكثر تنقلا التي ينضم إليها الشخص إراديا وطوعيا ، فإنهم غير راضين عن هذا المفهوم؛ إذ ان عضوية الشخص في جماعة " دينية" أو " قومية" قد تتغير علي مدار الحياة وتحل محلها جماعة جديدة.
وجدير بالملاحظة ان الافتقار إلي الوضوح بشان الجماعات التي تتمتع بالحماية وتلك التي لا تتمتع بها قد قلل من فاعلية الاتفاقية وجعلها أكثر استعصاء علي الفهم مما كان الواجب ان تكون عليه ؛ ولذا ، يطالب كثيرون بان تحظي قائمة الجماعات الواردة في المادة الثانية من الاتفاقية ب" تفسير رحب ومتحرر" ، وطالبوا بان يمتد مفهوم الإبادة ليشمل " الجماعة الجنسية" مثل النساء أو الرجال أو الشواذ . علاوة علي ذلك ، قد تشكل الجماعة المستهدفة إما أقلية عددية في بلد ما وغما أغلبية فيه. وجدير بالإضافة أيضا ألا يستبعد مفهوم الإبادة التي يكون فيها الضحايا من بين مكونات نفس جماعة الجاني فيما يمكن أن يسمي " إبادة جنس ذاتية "، أي القضاء الداخلي الشامل علي قطاع ذي دلالة من أفراد جماعة المرء ذاته الآمر بالقضاء الشامل.
وفي سياق متصل، ثمة انتقاد حاد يوجه صوب الجماعات المحمية بموجب اتفاقية الإبادة يتمثل في محدوديتها وحصريتها مما أجحف بحقوق جماعات أخري لم تكفل الاتفاقية حمايتها أمثال الجماعة السياسية والثقافية والاجتماعية . وجدير بالتسجيل هنا أن الإسقاط المقصود هنا للجماعتين الأوليين لا يعد من عيوب مفهوم " إبادة الجنس" فحسب ، ولكن من نقائص الاتفاقية برمتها .
الجماعة السياسية
يكاد يتفق معظم مؤرخي ومحللي " اتفاقية الإبادة" علي أن أهم " نواقصها الخطيرة" هو عدم الإشارة إلي أن الأفعال العدوانية بقصد تدمير" الجماعة السياسية" باعتبارها أفعالا تشكل" إبادة جنس". وقد طالب هؤلاء بضرورة أن يتسع مفهوم " إبادة جنس" حتي يشمل الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي ل" الجماعة السياسية " بصفتها هذه بمثلما الجماعات القومية أو العرقية أو العنصرية أو الدينية. وحسب رأيهم ، لا يخفي أن القضاء علي الخصوم السياسيين غير المسلحين لا يقل البتة إجراما عن المذابح التي تقام لتلك الجماعات الأخرى ويجب ان يعتد به باعتباره كذلك.
ونادي البعض بضرورة حماية الاتفاقية لجميع " الجماعات الإنسانية " عموما؛ إذ عندما ترك واضعو الاتفاقية " الجماعة السياسية" ومن هم علي شاكلتها ، خارج الحماية المنصوص عليها ، فإنهم بذلك قد تركوا الباب مفتوحا أمام أية حكومات لتفلت من الواجبات الإنسانية المفترض أن تكفلها الاتفاقية؛ إذ تضع "إبادة الجنس" موضع التنفيذ تحت ستار الإجراءات التنفيذية المتحدة ضد" الجماعة السياسية " وغيرها لأسباب أمنية أو تتعلق بالنظام العام أو بأي من سائرها المتصل بالسياسة العليا للدولة . وربما إذا استحال الدفع بالأسباب السياسية كعذر مقبول للإجراءات الإبادية المطبقة علي العكس متيسرا احتمال الدفاع عن تلك السياسة الحكومية علي أسس اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية . وعندئذ ، لا يشكل الطابع القومي او العنصري أو الديني للجماعة المبرر لأفعال التدمير موضع الاهتمام، ولكن يدعي ان الإجراءات قد اتخذت نفس الأشخاص- أعضاء هذه الجماعة أو تلك- باعتبار كونهم من أفراد جماعة اقتصادية أو اجتماعية ا ثقافية . بعبارة أخري، جماعة غير متمتعة بالحماية .
وتنتقد المادة الثانية من الاتفاقية بنحوها إزاء الجريمة الفردية دون الاضطهادات التي تحرض عليها الحكومات . علاوة علي ذلك، في بعض حالات المذابح الرهيبة يصعب تحديد تلك من بين الجماعات السياسية أو الاقتصادية أو القومية أو العنصرية أو العرقية أو الدينية – والمتداخلة جميعا فيما بينها- تكون المستهدفة بصفة رئيسية أو غلابة. وباختصار، إن معظم ضروب" إبادة الجنس" شيئا علي الأقل من المسحة السياسية .
علي أية حال ، لم تستبعد " الجماعة السياسية " اعتباطا ، إذ أن السجال السياسي الذي تخلل إعداد الاتفاقية كشف عن جهود الاتحاد السوفيتي – تحديدا- لإقصاء هذه الجماعة. ولا يخفي أن ستالين ( 1928-1953) كان قد بدا سلفا التصفيات التي استهدفت هذه الجماعات بالذات. وتجدر الإشارة إلي أن هذه الثغرة في " اتفاقية الإبادة" عموما وفي المادة الثانية خصوصا وفي مفهوم " إبادة الجنس" بالأخص غير خافية علي أحد. بيد أنه لم تبذل أية جهود لسدها منذ إقرار الاتفاقية عام 1948 . ويطرح بعض فقهاء القانون أن أحد الحلول الممكنة لسد هذه الثغرة يتمثل في إعادة صياغة المادة الثانية من الاتفاقية وضم " الجماعة السياسية " إليها في بروتوكول إضافي . ولكن علي الأرجح الغالب ربما تحول هذه " الآلية الجديدة " دون غدو بعض الدول أطرافا فيها.
ناهيك عن ثمة آليات دولية مثل " الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " و" ميثاق الحقوق المدنية والسياسية" تكفل فعليا الحماية ل" الجماعة السياسية " دون أن تخل بالأهداف المتوخاة بصدد منع جريمة " إبادة الجنس" والمعاقبة عليها . ومهما يكن من أمر، تسبب إسقاط " الجماعة السياسية" من بين الجماعات المحمية بمقتضي اتفاقية الإبادة في توصيف المفهوم بأنه " تعتيم فاجع" و" مفرط في التقلص" ؛ إذ لم يقتصر الأمر علي "الإبادة الثقافية" ؛ أي القضاء علي مؤسسات الجماعة أكثر منه القضاء علي وجودها المادي.
الإبادة الثقافية
انتقد كثيرون اتفاقية الإبادة عموما والمادة الثانية خصوصا التي عرفت "إبادة الجنس" بان نصها النهائي لم يتضمن أية إشارة مباشرة إلي " الإبادة الثقافية" ( الحضارية) – عدا البند رقم ه – مما سيؤثر سلبيا علي وجود الأقليات ومستقبلها . وتجدر الإشارة إلي ان " الإبادة الثقافية" وردت ضمنيا ف سياق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 96 . علاوة علي ذلك، حمل البند الثالث من المادة الأولي بمسودة الاتفاقية التي أعدها الأمين العام عنوان " الإبادة الثقافية" . كما كانت هذه الإبادة موضوعا مستقلا للمادة الثالثة من مسودة الاتفاقية التي أعدتها اللجنة المؤقتة المختصة بإبادة الجنس ( اللجنة السادسة). وقد أثارت هذه المادة مناقشات مطولة بين أعضاء اللجنة الذين انقسموا إلي فريقين أولهما : مؤيد لضم" الإبادة الثقافية" إلي الاتفاقية وثانيهما : معارض لهذا الضم.
وقد استند المطالبون بالضم إلي الحجج الآتية:
- استحالة فصل " الإبادة الثقافية" عن الإبادة الجسدية والبيولوجية لأن الأولي جزء متمم للتعريف العام لإبادة الجنس. كما أن الأولي لم تكن أقل بشاعة من الثانية؛ ولذا ، ستكون الاتفاقية ناقصة إذا اقتصرت علي حماية الجماعات البشرية ضد الإبادة الجسدية وحدها خصوصا وأن " الإبادة الثقافية" تنبع من نفس " دوافع الإبادة الجسدية وتصب في ذات " الأهداف" .
- لا يمكن لمواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان ان تعلن " الإبادة الثقافية" كونا جريمة أو توفر السبل لمنعها والقضاء عليها .
- لا يكفي إدخال مواد في التشريعات الوطنية تضمن للجماعات القومية أو العرقية أو الدينية حرية التعبير عن نفسها .
- إذا كانت بعض مواد القوانين الوطنية تحرم " الإبادة الثقافية"، فعد ذلك سببا إضافيا لضم هذه الجريمة إلي " اتفاقية الإبادة" تماما مثل القتل الجماعي والتسبب في الأذى الجسدي الخطير- وهما جريمتان يعاقب عليهما القانون الدولي- قد تم ضمهما إلي الاتفاقية.
أما الرافضون لضم " الإبادة الثقافية" إلي الاتفاقية فقد تحججوا بالآتي:
- تحدث " الإبادة الثقافية " سواء داخل إطار حماية حقوق الإنسان أو حقوق الأقليات.
- تعد " الإبادة الثقافية " مضمونا غامضا مما يتيح الفرصة للإفراط تحت هذا الستار ويخفض من قيمة الاتفاقية بدرجة كبيرة.
- ستجد المحاكم الدولية أو الوطنية نفسها في مأزق إذا تم استدعاؤها للبت في مجال غير محدد مثل " الإبادة الثقافية" التي تخص مباشرة أكثر المميزات تعقدا للروح الإنسانية.
- تسبب " الإبادة الثقافية " بمضامينها السياسية عدم تصديق بعض الدول علي الاتفاقية.
علي أية حال ، قررت اللجنة السادسة عدم إدراج البنود الخاصة بالإبادة الثقافية في اتفاقية الإبادة . وقد ظل هذا الإسقاط مثار انتقاد شديد للاتفاقية . وطالب كثيرون بإما مراجعة مفهوم " إبادة الجنس" الوارد في الاتفاقية وإما إعداد بروتوكول إضافي لها يقر بتجريم ط الإبادة الثقافية" . وفي المقابل ، ثمة آخرون امتدحوا إسقاط" الإبادة الثقافية " من اتفاقية الإبادة . إذ وفقا لآرائهم " لايتوافق مضمون الإبادة الثقافية مع المعني الاصطلاحي لإبادة الجنس التي ترتبط فقط بالتدمير الجسدي أو الحيوي لجماعة بشرية . بيد أن الانتقادات بخصوص " الإبادة الثقافية" قد أسفرت عن مخاطبة الأمم المتحدة في مطلع سبعينات القرن العشرين أعضائها وهيئات ومنظمات دولية لإبداء الرأي حول" الإبادة الثقافية" وإمكانية ضمها إلي اتفاقية الإبادة أو في آلية إضافية للاتفاقية , تجدر الإشارة إلي إحجام الحكومات والمنظمات والهيئات حتي مجرد " إبداء الرأي"فيما يخص " الإبادة الثقافية" مما يعكس رغبتهم في عدم تجريم هذا النمط لا في اتفاقية الإبادة ولا حتي في ملحق إضافي لها .
القصد الخاص
حسب المادة الثانية من اتفاقية الإبادة، يمثل " قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة..." الركن الركين وحجر الزاوية في مفهوم جريمة "إبادة الجنس" والسمة الفارقة لها عن أية جرائم شبيهة أو متداخلة. ناهيك عن كون الركن المعنوي لهذه الجريمة التي لا تكتمل الأركان إلا إذا توافرت لدي الجناة " نية" تدمير الأشخاص ليس بسبب كنيتهم أو هويتهم الخاصة، وإنما لأنهم أعضاء في إحدى الجماعات الأربع المحمية بموجب الاتفاقية. وبالتالي، تعد عضوية الضحايا في جماعة بذاتها العامل الحاسم في وقوع جريمة " إبادة الجنس"؛ ولذا فإن قتل آلاف الأشخاص دون توافر هذا القصد لا يصنف "إبادة جنس " بغض النظر عن ضراوة الجريمة وعدد ضحاياها في حين أن قتل شخص واحد مع توافر القصد يصنف"إبادة جنس" .
إذن، يعد القصد الخاص ممثلا في إرادة إفناء الجماعة المستهدفة شرطا محوريا وجوهريا في وقوع جريمة " إبادة الجنس" علاوة علي القصد العام. وبذا، تبوأت " نية الجناة" وعلاقتها العضوية بالأفعال الرامية لتدمير الجماعة المستهدفة موقعا بؤريا في جريمة "إبادة الجنس" . بيد ان إثبات هذه النية باعتبارها قصدا جنائيا خاصا يعد من المعضلات الشائكة في مفهوم الإبادة؛ إذ أن شرطية النية تظهر ان المسئولية الجنائية تقع بصفة جوهرية علي أولئك الذين يخططون لسياسة تقصد تحديدا تدمير جماعة مستهدفة ، كليا أو جزئيا ، أو يشرعون في هذه السياسة أو ينفذونها . بيد أنها لا تجيب عن الأسئلة الخاصة بمسئولية أولئك المتخذين مواقعهم علي سلم التنفيذ في الدرجات الأدنى منه وماهية المعايير القانونية اللازمة لإثبات مسئوليتهم القانونية تلك. ولاريب أن إثبات " القصد الجنائي الخاص" في معظم الأنظمة القانونية أصعب من إثبات القصد العام الذي يمكن إثباته بالمنهج الاستدلالي.
ومهما يكن من أمر ، إذا كانت القصدية الخاصة قد شغلت موقعا مركزيا في مفهوم الإبادة، فإنها أيضا أبرز الانتقادات الموجهة صوب مفهوم الإبادة، والاتفاقية معا ؛ إذ بموجبها غدا المفهوم القانوني لإبادة الجنس" معيبا علي نحو صارخ"، فبدلا من صياغة مفهوم موضوعي للإبادة – وهو ماكان ينبغي- نحت مصممو الاتفاقية مفهوما مرتكزا علي إثبات وجود القصد مما أضعف من قدرتها أو فاعليتها.
ولاريب ان القصدية الإبادية الخاصة أثارت مشكلات لاتزال معلقة ؛ إذ أن اتفاقية الإبادة لم تقدم إرشادات واضحة لتحديد " القصد"، ومن ثم ، تركت للقضاة والمحلفين حسم هذه المسألة بمقتضي المسئولية الذاتية. وإذا كان إثبات القصدية وعرا في ساحات القضاء، فلا مندوحة في أنه سيغدو أكثر وعورة وتعقيدا علي بساط البحث العلمي. ود أيضا ، ان القصدية تسبغ نوعا من عدم المنطقية علي الأنظمة القانونية التي تصنف مقتل فرد واحد بمثابة " إبادة الجنس" لتوافر النية الخاصة ولا تصنف مقتل عديدين، كذلك لعدم توافرها . وهنا – تحديدا – قد يحاجج الجناة بأنهم لم" يقصدوا" بأفعالهم الإجرامية تدمير الجماعة المستهدفة.
ورغم هذه الثغرات والالتباسات الناجمة عن القصدية. فغن استبعادها من مفهوم جريمة الإبادة قد يمحو أي تمييز بينهما وبين ما عداها من جرائم . بيد ان الاتفاقية قد ألقت نية تدمير الجماعة المستهدفة بأكملها ونية تدمير بعضها في سلة واحدة. ولعل هذه الملاحظة تثير قضية جد شائكة مرتبطة بماهية " الإبادة الجزئية"؛ إذ ان الاتفاقية لم تحدد المقصود بالتدمير الجزئي للجماعة المستهدفة. ولم تلوح إلي أي مدي أو حجم يكون هذا الجزء، وكذا ، نوعيته وفاعليته مما أسفر عن معضلة فقهية بقدر ماهي بحثية أيضا . وثمة سؤال يطرح نفسه علي بساط البحث؛ هل تدمير الجماعة المستهدفة يشمل تواجدها في أي مكان أم يقتصر علي قطاع محدد منها يميزه الجاني ويقصده في إقليم جغرافي بذاته أو شريحة من الجماعة شان مثقفيها أو نسائها؟
تجدر الإشارة إلي ان الاتفاقية قد استخدمت تعبير" كليا أو جزئيا" ، وهو مصطلح ملتبس تاركة أمر تأويله إلي القضاة والباحثين الذين خلصوا إلي أن جناة الإبادة لابد ان يقصدوا تدمير قطاع جوهري من الجماعة المستهدفة. وحتي يتسم هذا القطاع ب" الجوهرية" لابد أن يكون ذا دلالة رقميا بالقياس إلي العدد الإجمالي للجماعة ويكون ذا دلالة معنويا داخل الجماعة . ومن ثم، يؤثر فقدان هذا القطاع كميا وكيفيا في بقاء الجماعة المستهدفة علي قيد الحياة ، ويعد دليلا علي تدميرها جزئيا. وفي هذا الصدد ، تجدر الإشارة إلي أهمية عدد الضحايا في إثبات النية الإبادية ؛ إذ كلما كان عددهم كبيرا ، يصير إثبات النية أمرا أيسر نسبيا ويغدو الأمر أكثر بقليل من الاستنباط المنطقي للحقائق . وعلي النقيض تماما ، كلما انخفض عددهم باتت الحاجة إلي بعض العناصر الأخرى مثل وجود خطب وتصريحات تحرض علي الإبادة وتدمير الرموز الثقافية والحضارية مصحوبة بأعمال عنيفة.
وهكذا، لا يشترط ان تتعلق " إبادة الجنس" بتدمير الجماعة المستهدفة بأكملها ؛ إذ ان " المدي النسبي" للقضاء الفعلي عليها ، أو لمحاولة القضاء عليها – بأي من الوسائل المذكورة في المادتين الثانية والثالثة من الاتفاقية- يعد ليلا قويا علي ثبوت القصد المتوفر بالضرورة للقضاء عليها جزئيا كان أم كليا . وتبقي دلالة المدي النسبي للأعداد الكلية معيارا حاسما في قضية " الإبادة الجزئية" حتي لا يتم التقليل من قيمة مفهوم " إبادة الجنس" أو تمييعه بفعل تكاثر الحالات التي لم يتسع لها تفسير مبالغ في الشمول ، ولذا ، لا يفضل ان تطبق الاتفاقية علي حالات " الإبادة الفردية" خصوصا وأن المادة الثانية تستخدم صيغة الجمع علي امتداد الحالات الإبادية الخمس.
................................................................................................
بقلم الدكتور محمد رفعت الإمام
أريك – العدد19- ديسمبر 2011
...................
تثار في تلك الآونة مناقشات ومجادلات في الدوائر الإعلامية بخصوص تجريم القانون الفرنسي لإنكار الإبادة الأرمنية . وفي عين اللحظة ، تصف أدبيات كثيرة ان شعوبا عربية دخلت دوائر الإبادة علي أيدي أنظمتها الاستبدادية الحاكمة. وثمة خلط بائن في استخدام مصطلح" الإبادة" حتي أن كثيرا من الكتاب يستخدمونه دون معرفة ماهيته.
وفي هذا الشهر، تحديدا في 9 ديسمبر ، تمر ثلاثة وستون سنة علي إقرار " اتفاقية الأمم المتحدة لمنع إبادة الجس والمعاقبة عليها " في عام 1948 ، وهي الاتفاقية التي صاغت مفهوما دوليا ملزما لجريمة " إبادة الجنس" . ولذا سوف أكرس هذا المقال لتحديد ملامح مفهوم " إبادة الجنس" كما وصفته الأمم المتحدة وأبرز نقاط الضعف فيه .
بعد معركة ضارية ، وبعد سلسلة من " التسويات الدبلوماسية" استقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة علي ان يكون مفهوم الاتفاقية لجريمة " إبادة الجنس " حسبما ورد في مادتها الثانية : " أي من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية بصفتها هذه: ا- قتل أعضاء من الجماعة ب- إلحاق أذي جسدي أو نفسي خطير بأعضاء من الجماعة ، ج – إخضاع الجماعة ، عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا ، د- فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة ، ه- نقل أطفال عنوة من الجماعة إلي جماعة أخري.
وعلي المستوي العقابي ، تنص المادة الثالثة من الاتفاقية علي معاقبة الأفعال الآتية : اقتراف الإبادة في حد ذاتها علي نحو ما حددته المادة الثانية ، التآمر علي اقترافها ، الشروع في اقترافها ، الاشتراك في اقترافها . ومن جهة المسئولية الجنائية ، تؤكد المادة الرابعة علي معاقبة مرتكبي" إبادة الجنس " أو الأفعال الواردة في المادة الثالثة سواء كانوا حكاما أو موظفين عموميين أو مواطنين عاديين . وبذا، استبعدت الاتفاقية أي دور للدول أو الحكومات في ارتكاب جريمة"إبادة الجنس".
وبذلك، أعدت الاتفاقية مفهوما معترفا به دوليا لجريمة الإبادة قوامه أربعة أركان محورية هي : فعل جنائي، تعمد، تدمير كليا أو جزئيا ، جماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية ، مستهدفة . ووفقا لهذا المفهوم ، تتكامل الجريمة في " إبادة الجنس" ماديا ومعنويا ، إذ يتوافر الركن المادي في تدمير أعضاء الجماعة المستهدفة كليا أو جزئيا بإيتاء أحد- أو أكثر- الأفعال الخمسة المحصورة في المادة الثانية. ولا يشترط لوقوع هذه الجريمة ان يقود الفعل إلي غايته كليا أو جزئيا، فيكفي توافر النية الإجرامية المتعمدة عند الجناة للوصول إلي هذه الغاية، وهو ما يمثل الركن المعنوي في جريمة الإبادة.
وجدير بالرصد أم معركة المفهوم الأمثل لجريمة"إبادة الجنس لم تنته عند حد تسويات الجمعية العامة ولجانها لاتفاقية الإبادة في 9 ديسمبر 1948 ، بل تعرض مفهوم الأمم المتحدة – ولازال- لسلسلة من الانتقادات بسبب غموضه والتباساته وتداخلاته وثغراته ونقائصه رغم سمته القانونية الدولية الرسمية وفيما يلي نعرض لأبرزها وأهمها :
الجماعة المحمية
فيما يتعلق بالجماعة المحمية ، ثمة انتقادات عدة قد وجهت إلي ط الجماعات" التي اختصتها الإبادة بالحماية. ففي الابتداء، لم تحدد المادة الثانية – بل والاتفاقية برمتها – ماهية مصطلح " الجماعة" الوارد بها . وأكثر من هذا ، حددت المادة الثانية أربع فئات حصريا ينبغ حمايتها وهي: الجماعة القومية والعرقية والعنصرية والدينية دون تحديد معني هذه المصطلحات من منطلق أن جريمة"إبادة الجنس" تقترف ضد جماعة تمتلك سمات مشتركة ثابتة مستقرة يمكن التعرف عليها بسهولة . ومن ثم، تركت الاتفاقية تحديد ماهية المصطلحات آنفة الذكر إلي استنتاجات المشتغلين في العلو الإنسانية والاجتماعية وإلي اجتهادات المعنيين بالأمور القانونية تحكمهم- أو بالأحرى- تتحكم فيهم أهواء سياسية ومصالح اقتصادية وميول اجتماعية. ولا يخفي ان الفعل الإجرامي لن يصنف " إبادة جنس " إلا إذا استهدف تحديدا واحدة من الجماعات الأربع آنفة الحصر.
وهنا ، تكمن خطورة " التقديرية" في تحديد ماهية " الجماعات المستهدفة " علي المستويين العلمي والقضائي .
ويصف كثير من المشتغلين بالدراسات الإبادية والقانونية المحمية- عدا الدينية – بموجب اتفاقية الإبادة ب" الغموض" نظرا للتداخل والتشابك بين ما هو " قومي" و " عرقي " و" عنصري" ونادوا بإمكانية تعريف " الجماعات المحمية" علي نحو مختلف بناء علي " النوع" أو علي " مكان محدد " ورغم قناعتهم بان جل مقاصد مهندسي الاتفاقية تتمثل في حماية الجماعات المستقرة المشكلة نهائيا وتتحدد عضويتها من خلال التناسل مع استبعاد الأكثر تنقلا التي ينضم إليها الشخص إراديا وطوعيا ، فإنهم غير راضين عن هذا المفهوم؛ إذ ان عضوية الشخص في جماعة " دينية" أو " قومية" قد تتغير علي مدار الحياة وتحل محلها جماعة جديدة.
وجدير بالملاحظة ان الافتقار إلي الوضوح بشان الجماعات التي تتمتع بالحماية وتلك التي لا تتمتع بها قد قلل من فاعلية الاتفاقية وجعلها أكثر استعصاء علي الفهم مما كان الواجب ان تكون عليه ؛ ولذا ، يطالب كثيرون بان تحظي قائمة الجماعات الواردة في المادة الثانية من الاتفاقية ب" تفسير رحب ومتحرر" ، وطالبوا بان يمتد مفهوم الإبادة ليشمل " الجماعة الجنسية" مثل النساء أو الرجال أو الشواذ . علاوة علي ذلك ، قد تشكل الجماعة المستهدفة إما أقلية عددية في بلد ما وغما أغلبية فيه. وجدير بالإضافة أيضا ألا يستبعد مفهوم الإبادة التي يكون فيها الضحايا من بين مكونات نفس جماعة الجاني فيما يمكن أن يسمي " إبادة جنس ذاتية "، أي القضاء الداخلي الشامل علي قطاع ذي دلالة من أفراد جماعة المرء ذاته الآمر بالقضاء الشامل.
وفي سياق متصل، ثمة انتقاد حاد يوجه صوب الجماعات المحمية بموجب اتفاقية الإبادة يتمثل في محدوديتها وحصريتها مما أجحف بحقوق جماعات أخري لم تكفل الاتفاقية حمايتها أمثال الجماعة السياسية والثقافية والاجتماعية . وجدير بالتسجيل هنا أن الإسقاط المقصود هنا للجماعتين الأوليين لا يعد من عيوب مفهوم " إبادة الجنس" فحسب ، ولكن من نقائص الاتفاقية برمتها .
الجماعة السياسية
يكاد يتفق معظم مؤرخي ومحللي " اتفاقية الإبادة" علي أن أهم " نواقصها الخطيرة" هو عدم الإشارة إلي أن الأفعال العدوانية بقصد تدمير" الجماعة السياسية" باعتبارها أفعالا تشكل" إبادة جنس". وقد طالب هؤلاء بضرورة أن يتسع مفهوم " إبادة جنس" حتي يشمل الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي ل" الجماعة السياسية " بصفتها هذه بمثلما الجماعات القومية أو العرقية أو العنصرية أو الدينية. وحسب رأيهم ، لا يخفي أن القضاء علي الخصوم السياسيين غير المسلحين لا يقل البتة إجراما عن المذابح التي تقام لتلك الجماعات الأخرى ويجب ان يعتد به باعتباره كذلك.
ونادي البعض بضرورة حماية الاتفاقية لجميع " الجماعات الإنسانية " عموما؛ إذ عندما ترك واضعو الاتفاقية " الجماعة السياسية" ومن هم علي شاكلتها ، خارج الحماية المنصوص عليها ، فإنهم بذلك قد تركوا الباب مفتوحا أمام أية حكومات لتفلت من الواجبات الإنسانية المفترض أن تكفلها الاتفاقية؛ إذ تضع "إبادة الجنس" موضع التنفيذ تحت ستار الإجراءات التنفيذية المتحدة ضد" الجماعة السياسية " وغيرها لأسباب أمنية أو تتعلق بالنظام العام أو بأي من سائرها المتصل بالسياسة العليا للدولة . وربما إذا استحال الدفع بالأسباب السياسية كعذر مقبول للإجراءات الإبادية المطبقة علي العكس متيسرا احتمال الدفاع عن تلك السياسة الحكومية علي أسس اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية . وعندئذ ، لا يشكل الطابع القومي او العنصري أو الديني للجماعة المبرر لأفعال التدمير موضع الاهتمام، ولكن يدعي ان الإجراءات قد اتخذت نفس الأشخاص- أعضاء هذه الجماعة أو تلك- باعتبار كونهم من أفراد جماعة اقتصادية أو اجتماعية ا ثقافية . بعبارة أخري، جماعة غير متمتعة بالحماية .
وتنتقد المادة الثانية من الاتفاقية بنحوها إزاء الجريمة الفردية دون الاضطهادات التي تحرض عليها الحكومات . علاوة علي ذلك، في بعض حالات المذابح الرهيبة يصعب تحديد تلك من بين الجماعات السياسية أو الاقتصادية أو القومية أو العنصرية أو العرقية أو الدينية – والمتداخلة جميعا فيما بينها- تكون المستهدفة بصفة رئيسية أو غلابة. وباختصار، إن معظم ضروب" إبادة الجنس" شيئا علي الأقل من المسحة السياسية .
علي أية حال ، لم تستبعد " الجماعة السياسية " اعتباطا ، إذ أن السجال السياسي الذي تخلل إعداد الاتفاقية كشف عن جهود الاتحاد السوفيتي – تحديدا- لإقصاء هذه الجماعة. ولا يخفي أن ستالين ( 1928-1953) كان قد بدا سلفا التصفيات التي استهدفت هذه الجماعات بالذات. وتجدر الإشارة إلي أن هذه الثغرة في " اتفاقية الإبادة" عموما وفي المادة الثانية خصوصا وفي مفهوم " إبادة الجنس" بالأخص غير خافية علي أحد. بيد أنه لم تبذل أية جهود لسدها منذ إقرار الاتفاقية عام 1948 . ويطرح بعض فقهاء القانون أن أحد الحلول الممكنة لسد هذه الثغرة يتمثل في إعادة صياغة المادة الثانية من الاتفاقية وضم " الجماعة السياسية " إليها في بروتوكول إضافي . ولكن علي الأرجح الغالب ربما تحول هذه " الآلية الجديدة " دون غدو بعض الدول أطرافا فيها.
ناهيك عن ثمة آليات دولية مثل " الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " و" ميثاق الحقوق المدنية والسياسية" تكفل فعليا الحماية ل" الجماعة السياسية " دون أن تخل بالأهداف المتوخاة بصدد منع جريمة " إبادة الجنس" والمعاقبة عليها . ومهما يكن من أمر، تسبب إسقاط " الجماعة السياسية" من بين الجماعات المحمية بمقتضي اتفاقية الإبادة في توصيف المفهوم بأنه " تعتيم فاجع" و" مفرط في التقلص" ؛ إذ لم يقتصر الأمر علي "الإبادة الثقافية" ؛ أي القضاء علي مؤسسات الجماعة أكثر منه القضاء علي وجودها المادي.
الإبادة الثقافية
انتقد كثيرون اتفاقية الإبادة عموما والمادة الثانية خصوصا التي عرفت "إبادة الجنس" بان نصها النهائي لم يتضمن أية إشارة مباشرة إلي " الإبادة الثقافية" ( الحضارية) – عدا البند رقم ه – مما سيؤثر سلبيا علي وجود الأقليات ومستقبلها . وتجدر الإشارة إلي ان " الإبادة الثقافية" وردت ضمنيا ف سياق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 96 . علاوة علي ذلك، حمل البند الثالث من المادة الأولي بمسودة الاتفاقية التي أعدها الأمين العام عنوان " الإبادة الثقافية" . كما كانت هذه الإبادة موضوعا مستقلا للمادة الثالثة من مسودة الاتفاقية التي أعدتها اللجنة المؤقتة المختصة بإبادة الجنس ( اللجنة السادسة). وقد أثارت هذه المادة مناقشات مطولة بين أعضاء اللجنة الذين انقسموا إلي فريقين أولهما : مؤيد لضم" الإبادة الثقافية" إلي الاتفاقية وثانيهما : معارض لهذا الضم.
وقد استند المطالبون بالضم إلي الحجج الآتية:
- استحالة فصل " الإبادة الثقافية" عن الإبادة الجسدية والبيولوجية لأن الأولي جزء متمم للتعريف العام لإبادة الجنس. كما أن الأولي لم تكن أقل بشاعة من الثانية؛ ولذا ، ستكون الاتفاقية ناقصة إذا اقتصرت علي حماية الجماعات البشرية ضد الإبادة الجسدية وحدها خصوصا وأن " الإبادة الثقافية" تنبع من نفس " دوافع الإبادة الجسدية وتصب في ذات " الأهداف" .
- لا يمكن لمواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان ان تعلن " الإبادة الثقافية" كونا جريمة أو توفر السبل لمنعها والقضاء عليها .
- لا يكفي إدخال مواد في التشريعات الوطنية تضمن للجماعات القومية أو العرقية أو الدينية حرية التعبير عن نفسها .
- إذا كانت بعض مواد القوانين الوطنية تحرم " الإبادة الثقافية"، فعد ذلك سببا إضافيا لضم هذه الجريمة إلي " اتفاقية الإبادة" تماما مثل القتل الجماعي والتسبب في الأذى الجسدي الخطير- وهما جريمتان يعاقب عليهما القانون الدولي- قد تم ضمهما إلي الاتفاقية.
أما الرافضون لضم " الإبادة الثقافية" إلي الاتفاقية فقد تحججوا بالآتي:
- تحدث " الإبادة الثقافية " سواء داخل إطار حماية حقوق الإنسان أو حقوق الأقليات.
- تعد " الإبادة الثقافية " مضمونا غامضا مما يتيح الفرصة للإفراط تحت هذا الستار ويخفض من قيمة الاتفاقية بدرجة كبيرة.
- ستجد المحاكم الدولية أو الوطنية نفسها في مأزق إذا تم استدعاؤها للبت في مجال غير محدد مثل " الإبادة الثقافية" التي تخص مباشرة أكثر المميزات تعقدا للروح الإنسانية.
- تسبب " الإبادة الثقافية " بمضامينها السياسية عدم تصديق بعض الدول علي الاتفاقية.
علي أية حال ، قررت اللجنة السادسة عدم إدراج البنود الخاصة بالإبادة الثقافية في اتفاقية الإبادة . وقد ظل هذا الإسقاط مثار انتقاد شديد للاتفاقية . وطالب كثيرون بإما مراجعة مفهوم " إبادة الجنس" الوارد في الاتفاقية وإما إعداد بروتوكول إضافي لها يقر بتجريم ط الإبادة الثقافية" . وفي المقابل ، ثمة آخرون امتدحوا إسقاط" الإبادة الثقافية " من اتفاقية الإبادة . إذ وفقا لآرائهم " لايتوافق مضمون الإبادة الثقافية مع المعني الاصطلاحي لإبادة الجنس التي ترتبط فقط بالتدمير الجسدي أو الحيوي لجماعة بشرية . بيد أن الانتقادات بخصوص " الإبادة الثقافية" قد أسفرت عن مخاطبة الأمم المتحدة في مطلع سبعينات القرن العشرين أعضائها وهيئات ومنظمات دولية لإبداء الرأي حول" الإبادة الثقافية" وإمكانية ضمها إلي اتفاقية الإبادة أو في آلية إضافية للاتفاقية , تجدر الإشارة إلي إحجام الحكومات والمنظمات والهيئات حتي مجرد " إبداء الرأي"فيما يخص " الإبادة الثقافية" مما يعكس رغبتهم في عدم تجريم هذا النمط لا في اتفاقية الإبادة ولا حتي في ملحق إضافي لها .
القصد الخاص
حسب المادة الثانية من اتفاقية الإبادة، يمثل " قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة..." الركن الركين وحجر الزاوية في مفهوم جريمة "إبادة الجنس" والسمة الفارقة لها عن أية جرائم شبيهة أو متداخلة. ناهيك عن كون الركن المعنوي لهذه الجريمة التي لا تكتمل الأركان إلا إذا توافرت لدي الجناة " نية" تدمير الأشخاص ليس بسبب كنيتهم أو هويتهم الخاصة، وإنما لأنهم أعضاء في إحدى الجماعات الأربع المحمية بموجب الاتفاقية. وبالتالي، تعد عضوية الضحايا في جماعة بذاتها العامل الحاسم في وقوع جريمة " إبادة الجنس"؛ ولذا فإن قتل آلاف الأشخاص دون توافر هذا القصد لا يصنف "إبادة جنس " بغض النظر عن ضراوة الجريمة وعدد ضحاياها في حين أن قتل شخص واحد مع توافر القصد يصنف"إبادة جنس" .
إذن، يعد القصد الخاص ممثلا في إرادة إفناء الجماعة المستهدفة شرطا محوريا وجوهريا في وقوع جريمة " إبادة الجنس" علاوة علي القصد العام. وبذا، تبوأت " نية الجناة" وعلاقتها العضوية بالأفعال الرامية لتدمير الجماعة المستهدفة موقعا بؤريا في جريمة "إبادة الجنس" . بيد ان إثبات هذه النية باعتبارها قصدا جنائيا خاصا يعد من المعضلات الشائكة في مفهوم الإبادة؛ إذ أن شرطية النية تظهر ان المسئولية الجنائية تقع بصفة جوهرية علي أولئك الذين يخططون لسياسة تقصد تحديدا تدمير جماعة مستهدفة ، كليا أو جزئيا ، أو يشرعون في هذه السياسة أو ينفذونها . بيد أنها لا تجيب عن الأسئلة الخاصة بمسئولية أولئك المتخذين مواقعهم علي سلم التنفيذ في الدرجات الأدنى منه وماهية المعايير القانونية اللازمة لإثبات مسئوليتهم القانونية تلك. ولاريب أن إثبات " القصد الجنائي الخاص" في معظم الأنظمة القانونية أصعب من إثبات القصد العام الذي يمكن إثباته بالمنهج الاستدلالي.
ومهما يكن من أمر ، إذا كانت القصدية الخاصة قد شغلت موقعا مركزيا في مفهوم الإبادة، فإنها أيضا أبرز الانتقادات الموجهة صوب مفهوم الإبادة، والاتفاقية معا ؛ إذ بموجبها غدا المفهوم القانوني لإبادة الجنس" معيبا علي نحو صارخ"، فبدلا من صياغة مفهوم موضوعي للإبادة – وهو ماكان ينبغي- نحت مصممو الاتفاقية مفهوما مرتكزا علي إثبات وجود القصد مما أضعف من قدرتها أو فاعليتها.
ولاريب ان القصدية الإبادية الخاصة أثارت مشكلات لاتزال معلقة ؛ إذ أن اتفاقية الإبادة لم تقدم إرشادات واضحة لتحديد " القصد"، ومن ثم ، تركت للقضاة والمحلفين حسم هذه المسألة بمقتضي المسئولية الذاتية. وإذا كان إثبات القصدية وعرا في ساحات القضاء، فلا مندوحة في أنه سيغدو أكثر وعورة وتعقيدا علي بساط البحث العلمي. ود أيضا ، ان القصدية تسبغ نوعا من عدم المنطقية علي الأنظمة القانونية التي تصنف مقتل فرد واحد بمثابة " إبادة الجنس" لتوافر النية الخاصة ولا تصنف مقتل عديدين، كذلك لعدم توافرها . وهنا – تحديدا – قد يحاجج الجناة بأنهم لم" يقصدوا" بأفعالهم الإجرامية تدمير الجماعة المستهدفة.
ورغم هذه الثغرات والالتباسات الناجمة عن القصدية. فغن استبعادها من مفهوم جريمة الإبادة قد يمحو أي تمييز بينهما وبين ما عداها من جرائم . بيد ان الاتفاقية قد ألقت نية تدمير الجماعة المستهدفة بأكملها ونية تدمير بعضها في سلة واحدة. ولعل هذه الملاحظة تثير قضية جد شائكة مرتبطة بماهية " الإبادة الجزئية"؛ إذ ان الاتفاقية لم تحدد المقصود بالتدمير الجزئي للجماعة المستهدفة. ولم تلوح إلي أي مدي أو حجم يكون هذا الجزء، وكذا ، نوعيته وفاعليته مما أسفر عن معضلة فقهية بقدر ماهي بحثية أيضا . وثمة سؤال يطرح نفسه علي بساط البحث؛ هل تدمير الجماعة المستهدفة يشمل تواجدها في أي مكان أم يقتصر علي قطاع محدد منها يميزه الجاني ويقصده في إقليم جغرافي بذاته أو شريحة من الجماعة شان مثقفيها أو نسائها؟
تجدر الإشارة إلي ان الاتفاقية قد استخدمت تعبير" كليا أو جزئيا" ، وهو مصطلح ملتبس تاركة أمر تأويله إلي القضاة والباحثين الذين خلصوا إلي أن جناة الإبادة لابد ان يقصدوا تدمير قطاع جوهري من الجماعة المستهدفة. وحتي يتسم هذا القطاع ب" الجوهرية" لابد أن يكون ذا دلالة رقميا بالقياس إلي العدد الإجمالي للجماعة ويكون ذا دلالة معنويا داخل الجماعة . ومن ثم، يؤثر فقدان هذا القطاع كميا وكيفيا في بقاء الجماعة المستهدفة علي قيد الحياة ، ويعد دليلا علي تدميرها جزئيا. وفي هذا الصدد ، تجدر الإشارة إلي أهمية عدد الضحايا في إثبات النية الإبادية ؛ إذ كلما كان عددهم كبيرا ، يصير إثبات النية أمرا أيسر نسبيا ويغدو الأمر أكثر بقليل من الاستنباط المنطقي للحقائق . وعلي النقيض تماما ، كلما انخفض عددهم باتت الحاجة إلي بعض العناصر الأخرى مثل وجود خطب وتصريحات تحرض علي الإبادة وتدمير الرموز الثقافية والحضارية مصحوبة بأعمال عنيفة.
وهكذا، لا يشترط ان تتعلق " إبادة الجنس" بتدمير الجماعة المستهدفة بأكملها ؛ إذ ان " المدي النسبي" للقضاء الفعلي عليها ، أو لمحاولة القضاء عليها – بأي من الوسائل المذكورة في المادتين الثانية والثالثة من الاتفاقية- يعد ليلا قويا علي ثبوت القصد المتوفر بالضرورة للقضاء عليها جزئيا كان أم كليا . وتبقي دلالة المدي النسبي للأعداد الكلية معيارا حاسما في قضية " الإبادة الجزئية" حتي لا يتم التقليل من قيمة مفهوم " إبادة الجنس" أو تمييعه بفعل تكاثر الحالات التي لم يتسع لها تفسير مبالغ في الشمول ، ولذا ، لا يفضل ان تطبق الاتفاقية علي حالات " الإبادة الفردية" خصوصا وأن المادة الثانية تستخدم صيغة الجمع علي امتداد الحالات الإبادية الخمس.
................................................................................................
عطا درغام- Admin
- عدد المساهمات : 923
تاريخ التسجيل : 24/04/2009
مواضيع مماثلة
» إبادة السريان
» إبادة الجنس وجرائم الحرب
» كتاب إبادة الجنس البشري
» إبادة الجنس والتطهير العرقي والعنصرية
» إبادة النوع بين قضايا الصراع وحقوق الإنسان
» إبادة الجنس وجرائم الحرب
» كتاب إبادة الجنس البشري
» إبادة الجنس والتطهير العرقي والعنصرية
» إبادة النوع بين قضايا الصراع وحقوق الإنسان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء 8 سبتمبر 2020 - 19:40 من طرف عطا درغام
» نادر المشد..زارع الألغام في حرب النصر
الجمعة 23 أغسطس 2019 - 0:41 من طرف عطا درغام
» محمد أبو النور سماحة...صانع كباري النصر
الجمعة 23 أغسطس 2019 - 0:38 من طرف عطا درغام
» معروف طويلة.... رجل من زمن تصنع فيه الشدة الرجال
الجمعة 23 أغسطس 2019 - 0:35 من طرف عطا درغام
» يوم خيم الظلام بسواده علي القرية
الجمعة 23 أغسطس 2019 - 0:26 من طرف عطا درغام
» ديسمبر الأسود في جديدة المنزلة
الجمعة 23 أغسطس 2019 - 0:22 من طرف عطا درغام
» الكوليرا في جديدة المنزلة عام 1947 وفصل من تاريخ مآسي القرية في عصور الأوبئة
الجمعة 23 أغسطس 2019 - 0:21 من طرف عطا درغام
» يوسف ضبيع ... العمدة الشعبي لجديدة المنزلة
الخميس 20 يونيو 2019 - 21:11 من طرف Admin
» تاريخ الثقافة في جديدة المنزلة
الإثنين 17 يونيو 2019 - 20:32 من طرف Admin
» مفردات رمضان في جديدة المنزلة
الإثنين 17 يونيو 2019 - 20:31 من طرف Admin