السياسة ليست دين ( دينا )

السياسة ليست دين ( دينا )
بقلم: الدكتور محمد رفعت الإمام
أريف – العدد64 – أبريل 2003
......................
تحت عنوان " في قلب القاهرة " أقمنا مهرجانا لفيلم يسيء للإسلام والمسلمين وأفلام أخري جنسية رخيصة !!" كتب المخرج مدحت السباعي في عدد مجلة "الكواكب" الصادر يوم 4 مارس الماضي مقالا يهاجم فيه بشراسة _ غير منطقية – أعمال المخرج الأرمني الكندي اتوم إيجويان التي عرضها مركز الإبداع الفني بوزارة الثقافة بالاشتراك مع السفارة الكندية بالقاهرة ومجلس الأعمال الكندي المصري في الفترة من 16 إلي 22 فبراير 2003 . وقد قرأت المقال كثيرا وفكرت مرارا أن أعلق عليه في مجلة " الكواكب" ، ولكنني تراجعت ليس تكيسا مني بألا أضع نفسي في شبهة " العمالة الأرمنية" أو تحسبا لتوازنات مستقبلية ، بل لسبب وحيد فقط مفاده أن التصدي لمثل هذا " الهراء" يعلي من شأنه. بيد أنني وجدت إسلامي الذي أعتز به أيما اعتزاز وموضوعيتي التي بنيت عليها دراساتي الأكاديمية ومسئوليتي الثقافية تجاه " الحقيقة التاريخية".. كل هذا دفعني ليس إلي التصدي للمقال المذكور آنفا ، بل الاقتراب من مسألة جد شائكة تتعلق بالصلة بين الإسلام وما حدث للأرمن في الدولة العثمانية .
ثمة حقيقة يجب إقرارها في الابتداء: إن الدين – كل دين وأي دين – منذ وعي البشرية نفسها وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها ضحية لتوظيف مصلحي نفعي يمكن اختزاله في كلمة واحدة : سياسة . فقد غلف الظالمون والفاسدون والانتهازيون والاستبداديون والاستغلاليون والاستعماريون أفعالهم في إطار ديني ، رغم أن الله – سبحانه وتعالي – أنزل الأديان كافة للإصلاح لا للتدمير ، للسلم لا للحرب ، للخير لا للشر . وفي حالة الأرمن صور الساسة الأوروبيون ومؤدلجوهم القضية علي أنها " ذبح مسيحيين علي أيدي مسلمين".
وصورها العثمانيون والمتعصبون لهم بأنها " حرب دينية" دعوا فيها إلي " الجهاد " ضد " العملاء الخونة الملاحدة الكفرة " . والحقيقة أن المسيحية والإسلام بريئان كل البراءة مما التصق بهما . وفي هذا الصدد أدعو قراء آريف الكرام إلي قراءة واستيعاب جزء من حديث نشرته جريدة " المحروسة " القاهرية وعلقت عليه مع الصدر الأعظم ( رئيس الوزراء العثماني ) محمد سعيد باشا في عددها الصادر تحت رقم 985 يوم الثلاثاء 23 أبريل 1912 علي صدر صفحتها الأولي .
قال الصدر الأعظم : " ... إن الدولة العلية تعلم حق العلم أن في تركيا عنصرين يهمهما حفظ تركيا وهما الأتراك والأرمن . فإن الأروام ينتهزون كل فرصة للانضمام إلي اليونان وكذلك البلغار فإنهم يتوقون من صميم أفئدتهم إلي الانضمام لمملكة البلغار وهاتان الأمتان لا تكفان عن بث الدسائس وإضرام نيران الثورة في مكدونيا وغيرها ليتسنى لهم الفوز بضالتهم المنشودة والتخلص من التبعية العثمانية " . وقد علقت " المحروسة" علي حديث الصدر الأعظم بقولها : " والمتأمل في كلام الصدر الأعظم يجد أنه قريب من الصواب، بل يدل علي أصالة في الرأي وصراحة في القول . فإن الأرمن في تركيا يشغلون مركزا خاصا وهم أقل العناصر العثمانية جنوحا إلي الفتن والقلاقل وأكثر الأمم المسيحية في بلد الدولة شقاء وتعاسة . فقد تحملوا في العهد البائد صنوف الذل والهوان مما يذكر الإنسان بالعصور المظلمة التي كان الفاتحون يفتكون فيها بلا شفقة ولا رحمة بأهل المغلوبين علي أمرهم . ففي 1896 قتل من الأرمن في الآستانة وحدها في خلال ثلاثة أيام نحو عشرة آلاف أرمني . هذا بقطع النظر عن المئات الذين قتلوا في البلاد الأخرى والضواحي . وقد قتل من الأرمن بعد الدستور عدد كبير في أضنة وأثبت إذ ذاك الأحرار الأتراك أن الأرمن هم الذين جنوا علي أنفسهم .
" ومعلوم أن الأرمن يشغلون في دوائر الحكومة العثمانية .مركزا ساميا وكلهم متصفون بأصالة الرأي والأفكار السامية . والأرمن أوسع مدارك وأكثر معارف من اليونان والبلغار العثمانيين . من منذ ألف وخمسمائة سنة أضاع الأرمن استقلالهم وقسمت مملكتهم بين الأتراك والفرس والروسيين ولكنهم حافظوا إلي اليوم علي لغتهم وعاداتهم وآدابهم ووحدتهم ومازالوا كذلك إلي يومنا هذا يصارعون البقاء ويدافعون عن مصالحهم بكل قواهم .
" يبلغ عدد الأرمن في تركيا نحو مليونين من الأنفس ولكنهم أكثر ارتباطا واحتفاظا بجنسيتهم من سائر العناصر العثمانية . ولذلك كانت تركيا ولم تزل تحسب لهم حسابا حتي في خلال الانتخابات الأخيرة لمجلس " المبعوثان" اضطرت جمعية الاتحاد والترقي أن تتحد معهم وتجبيهم إلي جميع مطالبهم ففاوضت الجمعية الاتحادية جمعية داشناكتسون التي لها في الأستانة وفي الولايات الأرمنية فروع ونوادي وصحف . وقد عقدت الجمعيات اتفاقا وقعه ستة أعضاء من الجمعية وفيه تعدت جمعية الاتحاد والترقي بالمحافظة علي مدارس الأرمن وكنائسهم وأراضيهم وترشيح عدد معلوم من نوابهم إلي مجلس " المبعوثان" وكان للأرمن الفضل الأكبر في فوز الاتحاديين في الانتخابات ".
عن النظرة الموضوعية المتعمقة الهادئة إلي تصريح الصدر الأعظم محمد سعيد باشا وتعليق " المحروسة" عليه في 23 أبريل 1912 يفسر ماحدث للأرمن بجلاء بعد ثلاث سنوات بالتمام والكمال.. 24 أبريل 1915 بدء البرنامج الإبادي الشامل للأرمن في الدولة العثمانية في ظل تداعيات الحرب العالمية الأولي، وتبريء ذمة الأديان الشريفة من افتراء المصالح السياسية ، وتؤكد بلا ريب ان كاتب مقال " الكواكب " الذي لم ير فيلم " أرارات " يجهل التاريخ الذي أفتي به شر فتوي!!