شد الكور يا برعي............!!!!!

للوهلة الأولي سيندهش البعض من هذا العنوان الذي قد يكون غريبًا علي البعض، وقد يكون أمرًا عاديًا للبعض الآخر...فقد كنا نرد هذا التعبير زمان عندما نمر من أمام محل المرحوم الحاج الدسوقي البرعي، أو عندما نري أحدًا من أولاده...وكانوا يقابلوننا بابتسامة، وأحيانًا يكظمون غيظهم يظنون أننا نسخر منهم...!!!!
وهذا التعبير ليس من فراغ، بل يحمل وراءه تاريخًا كله شرف.... عمل...كفاح..مقاومة لتقلبات الزمن ، والحفاظ علي مهنة تكاد تكون منحصرة في عائلة المرحوم الدسوقي البرعي فقط، ولا ينازعهم فيها أحد.....
ولكن.....!!!!
ما حكاية شد الكور يا برعي.................؟!!!!!!
تعود البداية إلي الأشقاء الستة أولاد البرعي الزرنكي
عبده البرعي الزرنكي
البرعي البرعي الزرنكي
محمود البرعي الزرنكي
محمد البرعي الزرنكي إبراهيم البرعي الزرنكي
الذين استوطوا بالمنزلة
وكذا ،شوقي البرعي الزرنكي ب( صان الحجر ) شرقية
واستوطن عبده البرعي الزرنكي جديدة المنزلة، وتزوج بالسيدة زهزهان كريمة المرحوم جنيدي طويلة ، وعمل بمهنة الحدادة في جديدة المنزلة، وكان محله ب بجوار مسجد النصر ( المسجد الكبير قبل تجديده) مكان المكتب القديم بجوار حنفية الجامع القديمة ، ثم انتقل إلي المحل بمكانه الحالي علي البحر...... وورثه من بعده ابنه الدسوقي ، ثم أحفاده.
أنجب ابنه الوحيد ( الدسوقي عبده البرعي الزرنكي)، وتزوج الدسوقي بشقيقة المرحوم الحاج الشافعي زهيري، وعلم ابنه الدسوقي مهنة الحدادة الذي ورث المهنة بأسرارها، وحمل علي عاتقه مهمة الحفاظ عليها؛ فتفرد بها في القري الواقعة جنوب مركز المنزلة.........ويخدم الفلاحين الذين يفدون من الجديدة وخارج الجديدة من الفروسات والعامرة وميت خضير وغيرها من قري مركز المنزلة. وارتبطت الحدادة بالبرعي.
أما الكور................فما هو الكور................؟
الكور يُسمي في اللغة العربية (الكير) أداة جلدية يستخدمها الحداد لإذكاء النار، بدلًا من النفخ فيها.
ويتم نفخه عن طريق سلسلة مُدلاة من حشبة بطرفي، أحدهما ليشد منه الكور أحد الأشخاص الذي يعاون الحداد لإذكاء النار، والأخري مثبتة بالكور لتنفخ الجزء الذي يندفع منه الهواء من الكور للنفخ في النار......وغالبًا كان المرحوم الدسوقي البرعي يقوم بهذه المهمة لوالده المرحوم عبده البرعي لإشعال الفحم داخل المحل الصغير جدًا.
ينبعث الدخان كثيفًا بصورة مفزعة تكاد تخنق من يعمل ، ولهذا لا يتحمل احد العمل في هذه المهنة...حتي اننا لانجد دخلاء من خارج عائلة البرعي يعملون بتلك المهنة............!!!!
هذا المحل الضيق لا تجد فيه من أدوات الحداد غير الكورن والسندان( السندال) ومرزبة وشاكوش، ومسن للشراشر ، بجانب الكور الذي يشغل مساحة كبيرة من الحجرة، وكذا مقطع للحديد خارج المحل.
ظل هذا المحل صامدًا أمام الغزو الخراساني للقرية؛ فحافظ علي كيانه وتكوينه المعماري البسيط، ولم يُغير الحاج الدسوقي البرعي منه شيئًا، بل تركه بالكور الذي يشغل نصف مساحة الحجرة.
وعندما رزقه الله بأولاده الخمسة: ( محمد – نصر- إبراهيم -الدسوقي-أحمد )، وعلمهم جميعًا المهنة؛ لتظل مرتبطة بالبرعي........!!!!!
تجد أصغرهم ( غالبًا أحمد) يشد الكور، والأب( الدسوقي) أمام النار يشكل قطع الحديد ويطرق عليه بالشاكوش ليقابله محمد أو نصر بالمرزبة ويطرق عليها.
وآخر يجلس علي المسن لرجب الشرشرة، وآخران بالخارج يقطعان الحديد.
لكل من يمر يوميًاعلي طريق البحر، أو من يذهب لرجب الشرشرة أو عمل حديدة للفرن أو صاجة.... تصميم جردل ، أو قطع الحديد يري كل يوم هذا المشهد الذي أشبه بلوحة فنية صاغتها ريشة الأب........أو يري رواية تمثيلية هو مخرجها، والأبناء هم الذين يلعبون أدوارها...كل يقوم بالدور الذي حفظه وعلمه أبوه.
تمسك الحاج الدسوقي البرعي بالمحل حتي آخر يوم في حياته، ولم يُغير مكانه، وأوصي ابنه الأكبر( محمد) بأن يحافظ عليه وألا يبيعه ويتخلي عن مهنة الحدادة، وذلك علي الرغم من تخلي بعض الأبناء عن هذه المهنة لمهن اخري.
المرحوم الدسوقي البرعي( ابن الحاج الدسوقي) ترك المهنة وفتح مكتبة لبيع الأوات المدرسية ، وذلك لظروفه الصحية التي لم تعد تتناسب مع مشقة وتعب الحدادة إلي أن توفاه الله في مارس الماضي.
وكذا ، نصر وأحمد اللذان اتحها اتجاهًا مُغايرًا تمامًا عن مهنة الحدادة.
وإبراهيم الذي استقل بنفسه، وأراد ان يشق لنفسه طريقًا في نقل المهنة إلي مناطق أخري، وفتح محلًا في العامرة ، لكن لم يحالفه الحظ وعاد مرة أخري للعمل بمحل والده.
أما ( محمد) الإبن الأكبر، فحمل علي عاتقه مشقة الحفاظ علي إرث الحدادة رغم سفره إلي العراق في حياة والد ؛ ليجرب حظه، ولكنه عاد مرة أخري إلي دخان الكور والسندان والمرزبة.
سار علي خطي والده في تعليم أولاده أسرار تلك المهنة؛ لتظل في عائلة البرعي رغم سفر ابنه الاكبر ( وليد) للعمل بالسعودية، ويبقي مه ابنه الأصعر الذي يعشق مهنة الحدادة وتتجمع فيه كل سمات عائلة البرعي.
رغم مرور الأيام وتقلبات الزمن وانفراط ثلاث حبات من عقد البرعي ، أحدهما للوفاة وآخران لمهنة أخري، تجد محمدًا ينحت في الصخر ويتشبق بالحدادة ......ويسير علي خطي والده ؛ لتشعر بان الدسوقي البرعي لم يمت وأن الكور لم يتزعزع من مكانه .......ولم تتغير ملامحه.. بل ظل راسخًا في مكانه ما يزيد عن خمسة وسبعين عامًا ..يشهد عراقة مهنة لم تنقرض وتظل تقاوم زيف المدنية.
ونظل نقول: " شدالكور با برعي"....!!!!....فنلقي ابتسامة تعبر عن شرف وأصالة هذه المهنة العريقة التي لن تجد ها مثيلًا في قرية أخري.