أرمينية من الوثنية إلي المسيحية

أرمينية من الوثنية إلي المسيحية
بقلم: الدكتور محمد رفعت الإمام
أريف – العدد الثالث – مارس 1998
....................................
تحتفل جمهورية أرمينية في عام 2001 بمرور سبعة عشر قرنا علي اعتناقها المسيحية ديانة رسمية لها ، لنكون بذلك أقدم دولة في التاريخ تعترف بهذه الديانة رسميا . ويعد هذا الحدث من التحولات الكبري في حياة الأرمن نظرا لما أسفر عنه من آثار إيجابية وسلبية في تشكيل مجراي التاريخ الأرمني .
ونرجع إلي الماضي لنبدأ القصة من أولها.
الوثنية وتعدد الآلهة
انتشرت العبادات الوثنية في أرمينية قبل اعتناقها المسيحية ، وقامت تلك العبادات علي عبادة الشمس والقمر وبعض الآبهة المستعارة من الآشوريين والفرس . ومن أشهر الآلهة التي عبدها الأرمن قبل اعتناق المسيحية : آهور – مازدا Ahour- mazda أبو الآلهة جميعا وخالق كل شيء ، فاندو Vandour ، إله الثمر والفيض والبركات ،مهرMihre إله النار والنور ، دري Dre إله العلم والفراسة ، فاهاكن Vahakne إله الشجاعة والبطولة ، ناني Nane إلهة العفة والعصمة ، فينوسVenus (آسدغيج ) إلهة الجمال ، أناهيد Anahide أم الشعب الأرمني وإلهة الخصب والنماء
الروحانية وانتصار الخير
وتجدر الإشارة إلي ان الروحانية تمثل علامة مميزة للأرمن ، فالصراع الأبدي بين النور والظلام والانتصار النهائي للنور، والصراع بين الخير والشر والهزيمة النهائية للشر تكون مواد أساسية في عقيدة الأرمني البسيط ، والشمس التي قامت بدور بارز في العقيدة الأرمنية القديمة ، تشغل حتي اليوم وضعا مركزيا في تقاليد القداس الأرمني.
علي أية حال ، أصبحت المسيحية ديانة رسمية لأرمينية في حوالي عام 301 ميلادية عندما اعتنقها الملك ديرتاد الثالث علي أيدي القديس كريكور المضيء . وقبل هذا الاعتراف الرسمي ، كانت المسيحية تنتشر ببطء بين بعض أفراد الشعب الأرمني . وبعد الاعتراف الرسمي صار الشعب الأرمني علي دين ملوكه .
وديرتاد الثالث( 286-330) ، من ملوك المملكة الأرمنية الرابعة من الأسرة الأرشاجية البارثية التي حكمت أرمينية منذ عام 16 حتي 428 ميلادية ، وجعلت مدينة أرتكاستا عاصمتها . وقد أصدر الملك ديرتاد الثاثل مرسوما بإلغاء الوثنية وهدم معابدها في أرمينية .
قديس أرمينية الأول
أما كريكور المضيء ، فقد ولد في عام 239 ميلادية وسمي بداية ب((سورين)). وهو ابن آناك البارثي الذي قتل الملك الأرمني خسروف بتحريض من الملك الفارسي آرداشيس . أرسل كريكور إلي قيصيرية- مركز المسيحية – عاصمة إقليم قبادوكيا الروماني بآسيا الصغري ليتلقي تعاليمه المسيحية بها .تعرف كريكور بالملك ديرتاد الثالث البارثي وعمل سكرتيرا له وصادقه حتي صار أقرب رجال بلاطه إليه ومستشاره الأول لدرجة أن اعتنق هذا الملك وشعبه المسيحية علي يديه ، وعينه ديرتاد بطريركا لكل الأرمن.
وبذا يكون كريكور المضيء قديس أرمينية الأول ورسولها ومؤسس كنيستها الوطنية , توفي عن عمر يناهز السابعة والثمانين عاما.ودفن في بلدة تارتون Tartonبعد أن عاش حياة زاخرة بالإنجازات . وجدير بالذكر أن الكنيسة تحتفل بذكراه ثلاث مرات سنويا .
أقدم دولة
وباعتناق أرمينية المسيحية خلال حكم ديرتاد الثالث ، تكون أقدم دولة تعترف بالمسيحية ديانة رمية لها . وربما يكون الملك آبكار الخامس ملك أورفا أو الرها Edessa أول من اعترف بالمسيحية ديانة رسمية لمملكته.
اضطهاد المسيحيين
وجدير بالذكر أن أرمينية قد سبقت الإمبراطورة الرومانية في اعتناق المسيحية . أكثر من هذا بلغ اضطهاد الرومان للمسيحيين أوجه إبان اعتناق أرمينية للمسيحية الذي تزامن مع عصر الإمبراطور دقلديانوس (284 -305 ) الذي تزايد فيه عدد شهداء المسيحية نتيجة الاضطهاد الناجم عن مرسوم سنة 303 الذي أصدره دقلديانوس بتحريض من صهره وقائده وخلفه جالريوس.
ولم يبطل اضطهاد المسيحية في الإمبراطورية الرومانية إلا في عهد الإمبراطور قسطنطين الأول (306- 337 )بعد انفراده بالحكم أثر وفاة شريكه الإمبراطورجالريزس ( 305 – 311 ) وذلك بموجب مرسوم ميلان الصادر في سنة 313 . ولم تصبح المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية إلا في عام 381 إبان عصر الإمبراطور ثيودسيوس الأول.
الكنيسة الأرمنية
علي أية حال استقلت الكنيسة الأرمنية سريعا عن الكنيسة بقيصيرية وأقامت علاقات وثيقة مع السريان الذين زودوها بالكتاب المقدس والطقوس الدينية ومعظم أساليبها التنظيمية .
بيد أنها قد استقلت عن الكنيسة السريانية في اقرن الخامس الميلادي عندما ابتكر القديس ميسروب أبجدية وطنية وترجم مؤلفات دينية عديدة . ثم رفضت الكنيسة الأرمنية في مجمع دفين عام 506 تقرير مجمع خلقدونة عام 451 القائل بطبيعتين Dyophysite للسيد المسيح عليه السلام وأصبحت مونوفيزية Minophysite تؤمن بطبيعة واحدة للسيد للمسيح.
وعندما انفصلت الكنيسة الجورجي عن الأرمن وانضمت إلي الإغريق الأرثوذكس في مطلع القرن السابع ، وجد الأرمن أنفسهم مستقلين في عقيدتهم عن غالبية جيرانهم . فأصبحت كنيستهم تعرف رسميا ب " الكنيسة الأرمنية الرسولية الأرثوذكسية ". وترجع تسميتها ب" الرسولية الأرثوذكسية" إلي الاعتقاد بأن أرمينية قد تنصرت علي أيدي الرسولين بارثولوميو وثاديوس.
المقر الجاثليقي
ويقيم قداسة الجاثليق Catholicos الرئيس الأعلي للكنيسة الأرمنية في إيتشميادزين – المركز الروحي للأرمن . ولكن هذا المقر قد تغير أكثر من مرة لأسباب سياسية ودينية . فقد انتقل إلي دفين بين عامي 485 – 927 ، وكذا إلي أغتامار وأرجينا في شيراك وآني . وانتقل أيضا إلي هرومجلا ( قلعة الروم) علي شاطئ الفرات إبان القرنين الثاني عشر والثالث عشر ثم عاد إلي سيس – عاصمة أرمينية الصغري- وظل الجاثليق مقيما بها حتي بعد سقوطها علي أيدي دولة المماليك في عام 1375 . وفي عام 1441 انتخب الراهب جيراجوس جاثليقا في إيتشميادزين بادئا بذلك سلسلة من الجثالقة الذين حملوا " جاثليق كل الأرمن" .
أڦاراير
وتجدر الإشارة إلي ان اعتناق أرمينية المسيحية قد رسم المجري العام لتاريخها وأدخلها في صراع مع الفرس – حماة الزرادشتية- ففي عام 451 غزا الملك الفارسي يزدجر أرمينية بجيش جرار جعل مقدمته أسراب من الأفيال . واندلعت معركة أڦاراير التي استشهد فيها العديد من الأرمن الذين وضعتهم الكنيسة الأرمنية في مصاف قديسيها . وأخيرا ، أقلع الفرس عن خططهم لتحويل الأرمن بالإكراه إلي الزرادشتية .
مغناطيس الأرمن
ولما كان الأرمن مشتتين باستمرار خارج أرمينية ، فقد قامت كنيتهم بالحفاظ علي هذا الشتات ، فكل أرمني أينما يعيش يكون متشبثا بكنيسته وغيورا عليها ، ناهيك أن الأرمن قد ولوا وجوههم شطر كنيستهم عبر قرون طويلة اتصفت بالمحن والاضطهادات كأساس لكيانهم ومرفأ خلاصهم . وبسبب الاضطهادات التي تعرض لها الأرمن علي أيدي القوات الأجنبية ، كان آباء الكنيسة هم قادة المجتمع الأرمني بشكل تقليدي.
ثقافة جديدة
وأخيرا ، ترتب علي اعتناق أرمينية المسيحية ظهور ثقافة أرمينية ممتزجة بمؤثرات إغريقية وفارسية ، قامت علي أنقاض الثقافة الأرمنية الوثنية التي تحطمت علي صخرة تقاليد الديانة المسيحية . وبعامة ظهرت ثقافة أرمنية متنوعة ومتطورة وتبلورت بوضوح في نحتهم وتصويرهم وعمارتهم وشتي أنواع الإنتاج الفكري.