ناصر وأردوغان

فى مطلع خمسينيات القرن الماضى ، رمت تركيا بنفسها فى أحضان الأحلاف الغربية ، ودخلت فى شراكة إستراتيچية مع إسرائيل بعد أن كانت أول دولة إسلامية تعترف بالدولة العبرية . وبات واضحاً أن تركيا ستقوم بدور سلبى إزاء البلاد العربية التى تحررت من ربقة الاستعمار الغربى . ليس هذا فحسب ، بل إنها صارت على علاقة وطيدة بإسرائيل ؛ العدو اللدود للعرب . ومن ثم ، سوف تكون خصماً شرساً لـ " القومية العربية " . وفى سياق الحرب الباردة ، قامت تركيا بدور " حائط الصد " أمام الزحف الشيوعى صوب أوربا . ومن المفارقات ، هو نفس دور الدولة العثمانية التى عرقلت جميع محاولات روسيا القيصرية للوصول إلى " المياه الدافئة " .
وعلى النقيض تماماً من هستريا أردوغان ، سعت الإدارة المصرية بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر إلى " استقطاب " تركيا أو على الأقل تحييدها . وبلغة راقية ، كلفّ ناصر كلاً من أمين شاكر وسعيد العريان ومحمد مصطفى عطا لإعداد كتاب باللغة العربية موجهاً إلى الشعب التركى قبل نظامه الحاكم . وفعلاً، صدر الكتاب ضمن سلسلة " اخترنا لك" ، عدد 10 ، عن دار المعارف بالقاهرة فى يناير 1955 تحت عنوان " تركيا والسياسة العربية من خلفاء آل عثمان إلى خلفاء آتاتورك " .
وتحت عنوان " تركيا الشقيقة " ، قدّم ناصر بنفسه الكتاب إلى قراء الضاد . ورغم أن الكتاب موجّه وبه " مغالطات " تاريخية ، فإنه من منظور الخطاب السياسى يُعد وثيقة مهمة تكشف بامتياز آليات الإدارة المصرية فى الأزمات .ومن أقوال ناصر : " مهما يكن الأمر بيننا وبين تركيا ، فى الماضى أو فى الحاضر ، فهى منا ونحن منها... وطننا ووطنها قطعتان من هذا الشرق العربى، فهى دولة من آسيا وإن كان وجهها لأوربا ، ولغتنا ولغتها لفظان فى " قاموس " مشترك ، فهى كلام من كلامنا وإن كُتبت باللاتينية ! ... وماضينا وماضيها فصلان من كتاب واحد من تاريخ العرب والإسلام ...  وقد اختلطنا نسباً وصهراً ومواريث ثابتة ومنقولة ، وإن قامت بيننا الحدود والسدود والأسلاك الشائكة !... وطننا ووطنها قطعتان من ( منطقة الشرق الأوسط ) التى تُرسم لها الخطط وتُدبر التدابير ... وإذا سلمت تركيا سلمنا ، وإذا نحن كنا من القوة بحيث يحسب العدو حسابنا، فقد سلمت تركيا . فنحن لها الدرع الواقية وهى فى موقفها بإزاء العدو درع لنا ... الشعب التركى يؤمن بهذه الحقائق منذ كان. فلم يكفر بها يوماً ، وهى بعض إيمان الشعوب العربية " .
وعلى امتداد الكتاب ( 160 صفحة من القطع المتوسط ) ، حاول المؤلفون إيجاد القواسم المشتركة بين العرب والأتراك . ورغم هذا ، اكتشف الكُتاب فى نهاية الدراسة حقيقة عجزوا عن تفسيرها أو تبريرها . وحسب النص: " أسرفت تركيا إسرافاً شديداً فى عداوة العرب والتبرؤ منهم ، وإننا لنخشى تهمة المبالغة لو قلنا إنها أسرفت فى الكيد لهم والانضمام إلى عدوهم ، ولغير سبب ظاهر ، إلا التماس الزلفى إلى عدوهم " . ولذا ، فلا غرو أن تحدى النظام التركى شعور المصريين أثناء قضية الجلاء البريطانى عن مصر 1954 ، وانحازوا بسفور إلى بريطانيا ضد مصر . وأثناء حصار العرب الاقتصادى لإسرائيل ، كانت تركيا هى الدولة الوحيدة التى تدخلت لصالح إسرائيل ، وأخذت سفنها تغدو وتروح بين موانئ تركيا وتل أبيب . ومن ثم ، لا ينفصل رد فعل أردوغان إزاء المصريين ووطنهم إثر ثورة 30 يونية 2013 عن المسار العام للسياسة التركية إزاء العرب ، وإن كان الطموح الأردوغانى قد تجاوز الحدود الأتاتوركية .